فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء وَالأرض}.
استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله: {الله يحكم بينكم يوم القيامة} [الحج: 69]، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلًا على حساب عمله، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به.
و{ما في السماء والأرض} يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه.
والاستفهام إنكاري أو تقريري، أي أنك تعلم ذلك، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدرًا مما تلاقيه منهم.
وجملة {إن ذلك في كتاب} بيان للجملة قبلها، أي يعلم ما في السماء والأرض علمًا مفصلًا لا يختلف، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان.
واسم الإشارة إلى العمل في قوله: {الله أعلم بما تعملون} أو إلى مَا في قوله: {ما كنتم فيه تختلفون} [الحج: 69].
والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال: إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة، وإما على الحقيقة، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتابًا لائقًا بالمغيبات.
وجملة {إن ذلك على الله يسير} بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء.
واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الَكِناية فتأويله بالمذكور.
ولك أن تجعلها بيانًا لجملة {يعلم ما في السماء والأرض} واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل {يعلم} أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث.
وتقديم المجرور على متعلّقه وهو {يسير} للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}.
يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرّع عليها عطف غرض على غرض.
ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالًا من الضمير المرفوع في قوله: {جادلوك} [الحج: 68]، والمعنى: جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعدما رأوا من الدلائل، وتتضمن الحال تعجيبًا من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم.
والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدّد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحفّ بهم والتي ذُكّروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق.
و{من دون} يفيد أنهم يُعرضون عن عبادة الله، لأن كلمة {دون} وإن كانت اسمًا للمباعَدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره.
فكلمة دون إذا دخلت عليها مِن صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه دون.
فاقتضى أن المضاف إليه غيرُ مشارك في الفعل.
فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شؤون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصنامًا بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلًا.
والسلطان: الحجة.
والحجة المنزّلة: هي الأمر الإلهي الوارد على ألْسنة رسله وفي شرائعه، أي يعبدون ما لا يجدون عذرًا لعبادته من الشرائع السالفة: وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم، ولم يدّعوا أن نبيئًا أمر قومه بعبادة صنم ولا أن دينًا إلهيًّا رخص في عبادة الأصنام.
و{ما ليس لهم به علم}، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلاّ عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه.
وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأنّ الدليل الشرعي أهمّ.
و{ما} التي في قوله: {وما للظالمين من نصير} نافية.
والجملة عطف على جملة {ويعبدون من دون الله} أي يَعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام.
فالمراد بالظالمين المشركون المتحدّث عنهم، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم، أي كفرهم.
وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلًا لأنهم عبدوها رجاء النصر.
ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل: وما لا ينصرهم، كقوله تعالى: {والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم} [الأعراف: 197].
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ في وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا}.
عطف على جملة {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا} [الحج: 71] لبيان جُرم آخر من أجرامهم مع جُرم عبادة الأصنام، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن.
والآيات هي القران لا غيره من المعجزات لقوله: {وإذا تتلى عليهم}.
والمنكر: إما الشيء الذي تُنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسمًا، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمُكْرم بمعنى الإكرام.
والمَحْملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغَيْظ والغضب عندما يُتلى عليهم القران ويُدعون إلى الإيمان.
وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثرُه بواطنهم فظهر على وجوههم.
كما في قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به.
ولأجل هذه الَكِناية عدل عن التصريح بنحو: اشتدّ غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظًا، ونحو قوله: {قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [النحل: 22].
وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها.
والخطاب في قوله: {تعرف} لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله: {بالذين يتلون عليهم آياتنا}.
والتعبير بـ {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار.
ومقتضى الظاهر أن يكون {تعرف في وجوه الذين كفروا}، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم يُنزّل به سلطانًا، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر.
والسُّطُوّ: البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القران.
{والذين يتلون} يجوز أن يكون مرادًا به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37]، أي كذّبوا الرسول.
ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القران من المسلمين والرسول، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القران، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة.
وجملة {يكادون يسطون} في موضع بدل الاشتمال لجملة {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر.
{قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير}.
استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمرَ الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار.
والتفريع بالفاء ناشيء من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ.
ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظًا.
ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا}، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار.
والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم.
وشرّ: اسم تفضيل، أصله أشرّ: كثر حذف الهمزة تخفيفًا، كما حذفت في خير بمعنى أخير.
والإشارة بـ {ذلكم} إلى ما أثار مُنكَرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرًّا عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تُلي عليكم من الآيات فازدادوا غضبًا بهذا الذي أنَبّئكم به.
وقوله: {النّار} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {بشر من ذلكم}.
والتقدير: شرّ من ذلكم النّارُ.
فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شرًّا فاعلموا أنه النار.
وجملة {وعدها الله} حال من النّار، أو هي استئناف.
والتعبير عنهم بقوله: {الذين كفروا} إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم.
{وبئس المصير} أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول.
ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها، فتكون الجملة تذييلًا لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية.
أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يُعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثَل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها. اهـ.

.قال الشعراوي:

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء وَالأرض}.
هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه، ولم يدَّعِها أحد، فلا يعلم ما في السماء والأرض إلا الله، وهذه الآية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال: ما دام الأمر من الله أحكامًا تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها، فما ضرورة أنْ يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس كافة.
وقلنا: إن الدين نوعان: نوع لا يختلف باختلاف الرسل والأمم والعصور، وهذا في القضايا العامة الشاملة التي لا تتغير، وهي العقائد والأصول والأخلاق، ونوع آخر يختلف باختلاف العصور والأمم، فيأتي الحكم مناسبًا لكل عصر، ولكل أمة.
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض } [الحج: 70] أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه، فأنا أحكُم عن علم وعن خبرة.
{إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ } [الحج: 70] والعلم شيء، والكتاب شيء آخر، فما دام الله تعالى يعلم كل شيء، وما دام سبحانه لا يضل ولا ينسى، فما ضرورة الكتاب؟
قالوا: الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء.
وفي آية أخرى قال: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 11- 15].
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب: {بَلْ هُوَ قرآن مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22]. وقال تعالى: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] ويقول تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلا هو وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملائكة المطَّلعين على أن الأشياء التي تحدث مستقبلًا كتبها الله أزلًا، فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون، ثم جاء الشيء موافقًا لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته.
إذن: مجيء الكتاب لا ليساعدنا على شيء، إنما ليكون حُجَّة عليك، فيقال لك: {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] ها هو تاريخك، وها هي قصتك، ليس كلامًا من عندنا، وإنما فعلْك والحجة عليك.